علم الاجتماع الآلي: من الإنترنت إلى الروبوتات التي تعاني الوحدة

robot-with-laptop
يأتي هذا الكتاب في مبادرة من مؤلفه لتنظير فرع جديد من فروع علم الاجتماع، لم يصل المكتوب فيه أبعد من مقالات صحفية أو أوراق بحثية لا ترقى لأن تكون مدخلاً علمياً منهجياً متكاملاً لدراسة ظاهرة الاتصال عبر الحاسوب، ونشوء مجتمعات الإنترنت، وكيفية تأثيرها في التفاعل الإنساني من كونه بشرياً طبيعياً إلى كونه كائناً ممثلاً رقمياً، افتراضياً، على شاشات طورها الإنسان نفسه، فأخذت بيده إلى كون جديد من أكوان حياته وفضاءاته المجهولة.
في الفصل الأول ينطلق المؤلف من فرضية محددة هي: أن الإنسان في الفضاء الرقمي الإلكتروني ليس سوى ذاتْ افتراضية لها وجود مبرمج، وأن العامل الرئيسي في تحول الإنسان من صورته الإنسانية الطبيعية إلى صورته الآلية هو (العامل المعلوماتي) الذي يؤسس ويطور المجتمعات الرقمية الافتراضية.
هذا العامل الذي أدى إلى قلب المفاهيم الاجتماعية الثابتة، فبدلاً من أن يكون المجتمع حاوياً Container لأفراده، أصبح الأفراد في مجتمع الإنترنت مطالبين باحتواء هذا المجتمع الجديد الذي لا يوجد فيه مسار واحد، ولا يعرف نقاط ابتداء ولا انتهاء، وكما أنهم هم مطوروه فإنهم هم أنفسهم أيضاً مطالبون باحتواء تقنياته الجديدة وتفهمها والتعامل معها، وإلا فقدوا القدرة على التواصل، وأصبحوا مجرد أفراد هامشيين بدلاً من كونهم فاعلين.
وعن مبررات ظهور وتطور مجتمعات الإنترنت، وتبوئها المركز رقم واحد في التطبيقات المستخدمة على الشبكة، يقول المؤلف: إن الإنترنت قد عملت على تعويض النقص الحادث في (الأمكنة الثالثة) في المجتمعات الحديثة، والأمكنة الثالثة هي أحد عناصر المجتمع التقليدي، والتي كادت تختفي، وهي الأمكنة الاجتماعية التي يرتاح الناس فيها من الأعباء اليومية والفروقات بينهم، للثرثرة في أمورهم الخاصة والتخلص من قيود العمل والشكليات الرسمية، مثلاً الأندية الشعبية والاستراحات العامة والخاصة لمجموعات معينة، هذه النوعية من الأماكن ومن العلاقات، والتي كادت تندثر، تأتي الإنترنت لتعوض غيابها، في غرف الدردشة والشبكات الاجتماعية الافتراضية وجماعات الأخبار وغيرها.
وفي هذا الصدد يقول (هاورد راينجولد) مبتكر مصطلح (المكان الثالث): إن هذه المجتمعات المحلية الافتراضية في جزء منها هي رد فعل واستجابة لجوع الناس وافتقارهم إلى المجتمع المحلي، بعد تفرق وتفكك المجتمعات المحلية التقليدية.
وإذا كان علماء الاجتماع يرون أن أهم العوامل الارتباط في المجتمعات بشكل عام هو الرأسمال الاجتماعي، وهو العامل الذي يشجع التعاون والمساندة بين أعضاء الجماعات لأجل مصالحهم الخاصة، والذي يقوم أساساً على الثقة، ووجود قيم مشتركة بين عناصر المجتمع، فإن نمو المجتمعات الافتراضية بمختلف أحجامها على الإنترنت، سيساعد في واقع الأمر على إنتاج رأسمال افتراضي، تدعمه المعلومات المتداولة بين أفراد تلك المجتمعات، باستخدام التقنيات والبرمجيات التي تزداد حداثة يوم بعد يوم، كما تزداد سهولة في الاستخدام، وبالتالي قوة في التأثير، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على الرأسمال الاجتماعي الافتراضي المطلوب.
ويبدو من حديث الكاتب عن ظهور وتطور المجتمعات الإفتراضية أنها واجهت، ومنذ نشأتها (1973/1974) ذات المشاكل التي نعرفها في مجتمعاتنا الافتراضية الحالية، من تقمص الشخصيات والخداع وغير ذلك، أما الأمور التي كانت مثاراً للدهشة وقتها كحدوث زيجات بين أعضاء تلك المجتمعات، أو معاملات تجارية أو علمية جادة، فإنها الآن قد أصبحت أموراً اعتيادية تقليدية تحدث كل يوم.
إن التفاعل الاجتماعي باعتباره نتاج التواصل بين أفراد المجتمع، يحتاج دائماً إلى أدوات تدعم هذا التواصل وتعمل على تنظيمه، وفي إطار المجتمعات الافتراضية نجد أن التواصل يعتمد دائماً على تكنولوجيا الاتصال، وبين كل من التواصل والتكنولوجيا علاقة حلقية، فالتكنولوجيا تتطور بناء على تطور متطلبات أفراد المجتمع الافتراضي، في الوقت نفسه فإن التواصل بين أفراد هذا المجتمع محكوم دائماً بمدى تطور تكنولوجيا الاتصال فيما بينهم، وبعد أن بدأ التواصل عبر شبكة (آربا نت) (الجد الأول لشبكة الإنترنت الحالية) بتطبيق نظام بريد إلكتروني لا يدعم سوى اتصال بين فردين بحد أقصى، نجد أننا نحيا اليوم في عالم الشبكات الاجتماعية التي تدعم ملايين المستخدمين حول العالم، يتواصلون بداية من النص المكتب، مروراً بالصوت وكاميرات الويب، وانتهاء بحياة افتراضية مجسدة بكامل تفاصيلها وعناصرها، على نحو ما نرى في مواقع من طراز حياة ثانية Second Life مثلاً وغيرها من التطبيقات المماثلة على شبكة الإنترنت.
إلا إننا وإن كنا نتحدث عن عناصر التواصل (المادية) ممثلة في تقنيات الاتصال، إلا أن التفاعل الاجتماعي – بمعناه الأوسع – يعتمد على العديد من العناصر غير المادية، والمتمثلة أولاً في وجود خلفية مشتركة تعمل على أن يكون للمفردات المستخدمة في التواصل بين أعضاء المجتمع الافتراضي نفس الدلالة.
ثم تأتي احتياجات الإنسان الاجتماعية مثل شعوره بتقدير الآخرين له ولمساهماته في مجتمعه الافتراضي، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على تقديره هو لذاته، بما يدعم استمرارية مشاركته بشكل إيجابي.
أخيراً: الثقة، وهي العنصر الأهم في بناء أي مجتمع افتراضي واستمراريته، وتأسيساً على تلك الأهمية لمبدأ الثقة، فإن مجتمعات الإنترنت الكبرى تحاول دائماً ابتكار الوسائل والآليات التي تدعم ثقة المستخدمين، خاصة المواقع الربحية، التي يتمثل رأسمالها في مدى ثقة عملائها بها، ولذلك نجد موقعاً بحجم e-bay يوفر لزبائنه تاريخاً لكل بائع وعارض لديه، من خلال ما يعرف بمعدلات رضى الزبائن، وبذلك يمكن لعميل جديد أن يتعرف البائع ذا السمعة الجيدة، الأمر الذي يؤدي إلى تشجيع التعاون ما بين البائع والعميل، وخصوصاً حال حدوث مشكلات عبارة، غير مقصودة، فإن عامل الثقة هنا هو ما يجعل العميل يفترض حسن النية أولاً.
وفي نقطة هامة يشير المؤلف إلى أن كل مجتمع على الإنترنت، هو في الحقيقة لا يختلف كثيراً عن مجتمعات الواقع، في فرضه لآلية تقاليد اجتماعية معينة، خاصة تلك المجتمعات القائمة على أسس ومبادئ ثقافية معينة، مثل الجماعات الدينية مثلاً، أو الجماعات التي تتبنى اتجاهات معينة، فالأشخاص القائمين على تلك التجمعات، والمشاركين فيها إنما يأتون بمعاييرهم من عالمهم الطبيعي إلى عالمهم الافتراضي.
أما الجماعات التي تنشأ أصلاً من ثقافات واتجاهات مختلفة، فهي بالتالي تقوم بإنشاء وتطوير معايير لأفرادها، وفق ما يحدث بينهم من نقاشات وتبادل للآراء والأفكار، والحوارات والاتفاقات والاختلافات، بما يؤدي في النهاية إلى خلق ثقافة مشتركة بمعاييرها وعاداتها وتقاليدها الخاصة بها، وإذا كنا نملك مثالاً واقعياً يتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية بدءًا من نشأتها من أصول شتى، وصولاً إلى ثقافة أمريكية صرفة تحاول فرض هيمنتها على العالم بأسره، فإن هناك أمثلة افتراضية لا تحصى، تأتي منتديات الحوار في مقدمتها، ولا تنتهي عند مجتمعات الألعاب الافتراضية التي تضم ملايين اللاعبين حول الكرة الأرضية.
وفي فصله عن الثقافة الرقمية، يرجع بنا الكاتب إلى أصل مفردة Cyberspace لنجد أن أول ظهور لها – كالعادة – كان في رواية خيال علمي بعنوان (نيورومانسر) للأمريكي (ويليام جيبسون) في 1948، ومن بعدها ظهرت العديد من المفردات التي تحاول أن تعطي فضاء الإنترنت أبعاداً واقعية .. لنجد أن هناك صفحة أم homepage وإبحار navigation وغرف rooms وبوابات Gateways، وكما أن الأدب يحوي واقعية سحرية تعمل على إيجاد غير الممكن في الممكن، فإن الإنترنت قد مكنت الإنسان من خلق واقعية افتراضية Virtual reality عملت على نقل الواقع إلى المفترض وتجسيد المادة في نبضات الصفر والواحد ..
وفي ثقافة الإنترنت، فإن جموع المستخدمين هم من يشكلون مجتمعها، انطلاقاً من خلفياتهم الثقافية الطبيعية، لذلك فإن إدراك الفرد لعالم الإنترنت، وكيفية استخدامه وإدارته لمحتواها، إنما يكون من خلال هويته وثقافته الشخصية، مما يؤدي إلى إعادة خلق المجتمعات المحلية الواقعية مرة أخرى بواسطة التكنولوجيا، ومن هنا فإن كثير من الباحثين يفسرون حركة المشاركين في الفضاء السايبري كرد فعل لمؤثرات واستجابات خارجية (واقعية)، وكما يقول أحدهم: “إن الفضاء السايبري يستخدم كملعب للذات !”
ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى مناهج البحث المستخدمة في علم الاجتماع الآلي، ويشير إلى أن استخدام بعض المناهج التقليدية في بحث مجتمع غير تقليدي كمجتمع الإنترنت، إنما هو في حقيقته من قبيل تقريب الفهم العام، ومحاولة إيجاد ارتباطات معينة مع الظاهرة الاجتماعية الطبيعية، خصوصاً من حيث إجراء المقارنات وتحديد أوجه الشبه والاختلاف، وليس بهدف التحليل العلمي.
من ناحية أخرى فإن هذه المناهج التقليدية في البحث الاجتماعي، كالمنهج التاريخي أو منهج دراسة الحالة أو المنهج التجريبي، يمكن الاستفادة منها في البحوث الإلكترونية الافتراضية بصورة مبدئية، كأن يجري تتبع الظاهرة قيد البحث في الوثائق الإلكترونية المتاحة على الشبكة، وذلك في إطار استخدام المنهج التاريخي على سبيل المثال، حيث إن الوثائق الإلكترونية تعتبر وسيلة عامة في الإنترنت للحصول على البيانات والمعلومات حول موضوع البحث، كذلك قد يتطلب الأمر استخدام بعض التجارب والاختبارات في إطار المنهج التجريبي على سبيل المثال، كأن يقوم الباحث بإجراء تجارب على فئات محددة من المبحوثين، في مجتمع افتراضي واحد أو عدة مجتمعات افتراضية مختلفة، لأجل المقارنات ومعرفة الفوارق.
ولكن، ومع اختلاف مناهج البحث العلمية المستخدمة في دراسة مجتمعات الإنترنت، تبقى المشكلة واحدة، وهي مدى مصداقية المعلومات التي يقدمها أفراد العينات التي يتم اختيارها عن أنفسهم، صحيح أن هناك معلومات لا شك في صدقها، وهي التي توفرها مواقع الإنترنت نفسها، مثل أعداد المستخدمين المتواجدين في وقت ما، والبلدان التي ينتمون إليها، إلا أن المعلومات الأهم، والمتعلقة بالسن والنوع والهوايات وغيرها، تبقى عرضة للشك وعدم اليقين.
أما المشكلة الأهم فتتعلق بأخلاقيات البحث العلمي نفسها، وما قد تثيره مراقبة المستخدمين في غرف الدردشة والمواقع التفاعلية من مشكلات أخلاقية وربما قانونية، بعيداً عن أهمية استخدام مثل هذه الأساليب لدراسة فئات معينة مثل المراهقين، ونمط تفاعلاتهم المتسمة بالتحرر والاستقلالية النابعين من شعور بالأمان والراحة، خاصة وأن وسائل أخرى مثل الاستبيانات المرسلة عبر البريد الإلكتروني أو المقابلات الإلكترونية، لا زالت تلقى صعوبات تقنية ممثلة في احتمالية تعطل الاتصال خلال عملية الإرسال، وبالطبع فإن المستخدم لن يقوم بإعادة ملء الاستبيان مرة أخرى، كما أنه لا يمكن التحكم بنوعية الأفراد المشاركين، الأمر الذي يؤدي إلى أن معظم الردود تأتي من أفراد لا يمثلون الفئة المستهدفة، دعك من أن مثل هذه الوسيلة لا تثير اهتمام المبحوثين للتفاعل معها، أحد الاستبيانات تم إرساله إلى أفراد في أكثر من عشرين دولة، لم يصل الباحث سوى 135 رداً فقط !
وفي فصله الأخير عن مستقبليات علم الاجتماع الآلي، يقدم لنا المؤلف مصطلحاً جديداً هو (الذكاء الجمعي)، بما تمثله شبكة الإنترنت اليوم، باعتبارها (Super Brain) وبلوغها درجة عليا من التفاعل الاجتماعي، وبما حققته من إشباع نفسي وعقلي لمستخدميها، وبما وصل إليه التعامل ما بين الإنسان والآلة من مستوى مقبول ومريح من التعامل الذكائي المتبادل، وصولاً إلى ذكاء جمعي يتمثل في انتقال المعرفة من مستخدم لآخر، وبشكل مشترك بين الجميع، مؤدياً في النهاية إلى خلق معارف جديدة، وليس الاقتصار على مجرد جمع المعرفة الموجودة.
ولا تبدو عوالم الخيال العلمي بعيدة إلى هذا الحد، فحسب توقعات الباحثين فإن الكمبيوترات المصنعة في عان 2030 ستكون لها ذات إمكانيات المخ البشري، أما عام 2050 فسيشهد الطور الرابع لأجهزة الكمبيوتر، والذي سيزودها بقدرات فائقة من الذكاء الصناعي، يجعلها قادرة على التمييز والتصرف، أما الطور الخامس فسيمكن للآلات فيه أن تدرك وأن تعي ذاتها!
يقول الكاتب: إن المسألة تتعلق بمحاكاة كاملة للإنسان، فالإنسان ومن خلال برامج الذكاء الصناعي التي يكتبها، فإن الذكاء الذي اكتسبه عبر مراحل طويلة من تطوره التكنولوجي والاجتماعي والثقافي، وعبر آلاف السنين، هذا الذكاء أصبح اليوم يصنع ويعلب ويقدم جاهزاً للآلات!
ومع بلوغ ثلث القرن الحالي ستصمم خرائط كاملة ومفصلة للمخ البشري، بخصائصها التي يمكن حوسبتها وإعادة تصنيعها في حواسب متقدمة.
إذن، علم الاجتماع المستقبلي لن يكون مقتصراً على مجتمعات البشر التقليدية، ولا حتى الافتراضية، وإنما سيهتم كذلك بمجتمعات الروبوتات، والمشكلات التي ستفرزها، مثل امتلاك الإرادة الحرة وإدراك الانتماء للأنا الشخصية، ومدى قدرة الروبوت على الإقناع حين يقول لك: أنا وحيد .. من فضلك كن بصحبتي (!)
ومن المشكلات المتوقع ظهورها هو الجدل مع الكائنات الآلية المستقبلية حول هويتها وذاتها ووعيها الحقيقي بنفسها، كما يتوقع أنه وكما وصل الإنسان إلى مرحلة تطوير آلات ذكية، فإن المرحلة التالية ستكون أن هذه الآلات الذكية ستخلق جيلها اللاحق من دون تدخل الإنسان !
هذا المجتمع بكل عناصره الآلية سيجعل اهتمام الإنسان يتحول من السعي للمعرفة الكلية بالعالم إلى المعرفة الخاصة بذات الإنسان، المعنى الحقيقي في كنه الإنسان بما يميزه عن معنى الآلة الدخيل المزيف، لذلك سيتركز اهتمام الناس بشكل خاص على تحسين الحياة، ليس عن طريق المادة، وإنما بالاحتياج الملح إلى إنفاق أوقات أكبر مع الأسر والعائلة، الاستمتاع بالفنون التي تحقق الإشباع الوجداني وتستعيد المفقود من الذات، وتعمق درجة تحقيق الذات الإنسانية الحقيقية بدلاً من العالم الافتراضي المصطنع.
وفي الختام يقول المؤلف: إن الإنسان اليوم على بعد خطوات قليلة ليسلم الراية إلى إنسان جديد، هو جزء لا يتجزأ منه، ولكنه يحمل خصائص التكنولوجيا في عقله وجسمه وسلوكه، ومن ثم في تطوره الحضاري، حاضراً ومستقبلاً.
ومن هنا يأتي الاحتياج إلى علم الاجتماع الآلي، لفهم الحياة المعاصرة، وتغيراتها الحالية والمستقبلية، في ظل مجتمعات جديدة يكونها ويشكل نظمها وعاداتها وتقاليدها وأعرافها الإنسان/الآلة والآلة/الإنسان  !