الفيلسوف والأرستقراطية يعثران على وتر مفقود من عازف الكمان

استكمالا للمقال السابق أينشتاين يسأل ماكسويل: ماذا لو ارتحلنا في الكون على متن شعاع ضوء؟!، كان أينشتاين يحاول تأمل تساؤلاته حول طبيعة الضوء من جديد، حيث السؤال الأكثر إلحاحاً على ذهنه: ماذا لو كنت أنتقل بمحاذاة موجة ضوئية؟ فهل من المتوقع أن تظهر موجة الضوء ساكنة وليست متحركة. بنفس الكيفية التي ترى بها الموجة عند النظر إلى الماء وأنت تستقل مركبة شراعية مثلاً. أو عندما تستقل مصعداً وتشعر أثناء حركته بأنه متوقف. ولكن ماكسويل حمِل في معادلاته الرياضية ما يقول بأن الضوء ليس ساكناً. وحتى لو سِرت بسرعة 670 مليون ميل في الساعة -سرعة الضوء- فإن آشعة الضوء ستفلت منك بنفس سرعتها أي بسرعة 670 مليون ميل في الساعة أيضاً.
فلو كنت انظر إلى مرآة وأرى وجهي، حيث الضوء الساقط على وجهي ينتقل إلى المرآة ومن ثم ينتقل إلىّ مرة أخرى. فماذا سيحدث لو تحركت بسرعة الضوء وفي يدي المرآة، هذا يعني أن الضوء المنتقل من وجهي إلى المرآة سيتحرك بنفس السرعة التي أتحرك بها وبالتالي فهو لن يصل أبداً إلى المرآة. أي أنني لن أرى وجهي في المرآة مادمت أتحرك بسرعة الضوء!
كانت كل هذه المحاولات التأملية من أينشتاين تزيده قناعة بأن الضوء لا يشبه أي نوع من أنواع الموجات. في هذه اللحظة، كان أينشتاين على وشك دخول عالم تتداخل فيه الطاقة والكتلة وسرعة الضوء بطريقة لم تخطر في بال أحد من قبل. لكن أينشتاين كان ينقصه جانب رياضي يعينه على دخول هذا العالم، ويكمن هذا الدعم الرياضي في عملية التربيع التي نقوم بها بشكل يومي للقيم الرياضية. وهو ما سنتعرف على جذوره اليوم.
emilieقبل الثورة الفرنسية بزمن طويل، لم يكن العلماء يعرفون كيف يقيسون الحركة. كانت المعادلات التي تشرح حركة الأشياء واصطدامها بدائية. حتى جائت مساهمة هامة في هذه الإشكالية العلمية عن طريق الأرستقراطية الفرنسية إيميلي دو شاتليه، والتي كان لها تأثير كبير في الفيزياء خلال حياتها القصيرة (43 عاما). لم يسمع بإيملي من أهل زمانها الكثير، على الرغم من نشرها عدداً من البحوث العلمية والتي كان من بينها ترجمة لكتاب إسحاق نيوتن “المبادئ”، وهو أعظم بحث حول الحركة كُتِب يوما. ولا تزال ترجمتها نصاً نموذجياً في فرنسا إلى يومنا هذا.
كانت إيميلي امرأة سابقة لزمانها ومكانها، كانت فيلسوفة وعالمة ورياضية وباحثة لغوية. كانت تحتاج إلى حرية لم تحظ بها المرأة إلا بعد زمنها بأكثر من مائة وخمسين عاماً، وهي حرية دراسة العلوم والكتابة عنها ونشرها. كانت إيميلي في الثالثة والعشرين عندما تعرفت على الرياضيات المتقدمة. وكانت تحضر دروسا عند أعظم علماء الرياضيات في ذلك الوقت. حيث كانوا هم خبراء في قوانين نيوتن، وهي التلميذة الصغيرة الشغوفة بالعلم. وبعد زواجها بفترة أنشأت في بيتها الريفي معهد لمنافسة المعهد الفرنسي الأكاديمي للعلوم. وكان يتردد عليه كبار لفلاسفة والشعراء وعلماء ذلك العصر.
تعلمت إيميلي من الرجال النوابغ حولها. ولكنها لم تلبث إلا أن أبدعت أفكارها الخاصة بها. حيث أثارت ذعر معلميها عندما تجرأت على الإشارة لوجود عيب في تفكير السير إسحاق نيوتن. حيث أكد نيوتن أن طاقة الأشياء أو القوة التي تجعلها تتصادم يمكن حسابها ببساطة من خلال ضرب كتلتها في تسارعها.
Gottfried_Wilhelm_von_Leibnizومن خلال المراسلة مع علماء ألمان، تعرفت إيملي على آراء أخرى أهمها رأي عالم الرياضيات والطبيعة الفيلسوف “لايبينتز” والذي كان مقتنعا بأن طاقة الجسم مكونة من كتلته ضرب مربع سرعته. وعلى الرغم من التأييد الواسع لنيوتن، فإن قناعة إيميلي دو شاتليه بآراء لاينبيتز لم تتزعزع.
رأت إيميلي وقتها تخصيص فصل في كتابها من أجل عرض آراء لايبينتز. وعلى الرغم من تحذير فولتير لها بأن الأكاديمية الفرنسية الرسمية ليست مستعدة لقبول رأي كهذا في الوقت الحالي، إلا أنها رأت بعزمها أنه ليس هناك وقت محدد لتبني الحقيقة. وبعدها نشرت إيميلي كتابها بعنوان “قوانين الفيزياء” عام 1740 وأثار جدلاً واسعاً بسبب آرائها. حيث كانت إيميلي طوال حياتها تحاول تجاوز الحدود المفروضة على بنات جنسها.
إن نظرية إيميلي ولاينبيتز التي تتحدث عن أن طاقة الجسم معادلة لمربع سرعته أثارت جدلاً حاداً. ولم يتم قبول فكرتها إلا بعد مائة عام من وفاتها، وذلك عندما جاء الشاب ألبرت أينشتاين -عازف الكمان- واستخدم هذه الفكرة الملهمة التي مكنته من تشكيل رؤية عامة لمعادلة تجمع الطاقة والمادة وسرعة الضوء.
كان أينشتاين يحتاج إلى فكرة تربيع الرموز الرياضية كي يكمل بهذا الوتر الناقص كل ما احتاجه الكمان الخاص به. ومن بعدها، انطلق عازف الكمان يعزف سيمفونيات تعد الأعظم في تاريخ العلم. وهذا ما سنتعرف عليه في المقال القادم.